عودة ميت
منزل فقير .. غرفتين وصالة .. وتلفزيون صغير يبحث عمن يشاهد فيه شيئاً من برامج بلا معنى لإعلاميين يفتقدون لأبسط قواعد
المهنية .. الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .. الحاجة سيدة ذات الأعوام
الستين أو أم إبراهيم كما يناديها الناس في الحارة على إسم إبنها من زوجها
الأول .. تغط في نوم عميق .. فجاءة تستيقظ على صوت طرق خفيف على نافذتها
المطلة على زقاق صغير .. ترد وهي مازالت مغمضة عينيها .. مين إللي بيخبط
على الشباك في الساعة دي .. يرد صوت مازالت تعرفه .. أنا يا سيدة .. إفتحي
الباب .. إنت .. أنت مين .. بسم الله الرحمن الرحيم ..؟ أنا إسماعين يا
سيدة .. ترد سيدة .. إسماعين مين ..؟ إسماعين مات من زمان .. إيه شغل بسم
الله الرحمن الرحيم ده .. يرد نفس الصوت يا وليه إفتحي الباب .. أنا
إسماعين جوزك إللي كنت مسافر العراق من 30 سنة .. وهنا ترفع سيدة الغطاء
على رأسها وتجلس على السرير الخشبي القديم وتنادي على إبنتها الأرملة التي
تشاركها منزلها الفقير .. بنت يا لوزه .. بنت يا لوزه الحقيني يا بنت ..
باين العفاريت الليله عامليني شغلتهم الليلة .. إنت يا بنت ..؟ ترد لوزه من
الغرفه الأخرى أيوه يامه فيه إيه .. ترد عليها أمها .. تعالي يا بنت الكلب
شوفي مين إلي بيخبط عليا من الزقاق ده .. تأتى لوزه وهي تفرك في عنيها ..
خير يا أمه هو إنتي لازم تسمعي بينا الناس كده .. يعاود الصوت الغريب
الكلام من خلف النافذة .. إفتحى يا سيدة بقى ما بصحش كده .. تسرع لوزه إلى
النافذة لتفتحها وترى من صاحب هذا الصوت .. ولكن سيدة تمنعها بسرعه .. إنت
إتجننتي .. إنت عاوزه العفريت يلبسك .. وتحدث صاحب الصوت الغريب إستعطاف ..
أنصرف .. أنصرف الله لا يسيئلك .. إحنا غلابه موش ناقصين .. إنصرف بإسم
الله الرحمن الرحيم .. يرد مره أخرى ولكن بصوت أعلى تلك المرة .. إنت نسيتي
صوتي يا سيدة إخص عليك أنا بردو عفريت ..؟ ترتعد الحاجة سيدة تلك المرة
وتتصبب عرقاً .. ما هو ده إللي راعبني يا عم العفريت .. فعلاً أنا عارفه
صاحب الصوت ده كويس .. أيوه ده صوت أسماعين جوزي الأولاني وأبو إبراهيم
إبني البكري .. عارفاه كويس يا خويا .. عارفه صاحب الصوت إللي سافر وسابني
اتلطم أنا وإبنه وسافر .. حد ينسى صوت إللي عذبه .. أبوس إيدك أنصرف
وماعدتش جايبه سيرتك تاني مع حد .. ماعتدش مستنياك في الحلم تاني .. خلاص
الجرح لم .. تقف لوزه مذهوله .. وهي تسمع الحوار بين أمها والعفريت كما
تسميه .. ولكنها تهجم فجاءة بشجاعة نادرة وتفتح النافذة .. وفي ضوء مصباح
الشارع البعيد ترى رجلاً عجوزاً يرتدي بدلة ورابطة عنق يبدوا كشبح قد خرج
تواً من القبر .. يقف فعلاً أمام النافذة .. فتفقد الوعي من الصدمة .. ولكن
سيدة تنزل من فوق السرير وهي تكاد لا تصدق ما ترى بأم عينيها إنه فعلاً
إسماعين زوجها الصياد الذي سافر منذ 30 عاما مثل معظم شباب مصر في تلك
السنوات البعيدة عندما كان هناك عراق .. طلباً للرزق وبحثاً عن العمل ..
تصرخ فيه والدموع تنفجر ينابيع ساخنة من عيونها .. إنت لساك عايش يا
إسماعين ..؟ إنت موش موت ..؟ حروب وملايين الناس ماتت وإنت لساك حى ..؟ لا
جواب ولا تلفون ولا دينار ولا جنيه ؟ 30 سنه ناس ماتت وناس اتولدت وناس
هاجرت وناس جات وثورة قامت .. ورئيس جه ورئيس أتسجن .. وإنت لساك عايش ..؟
أنا طلعت لك شهادة وفاة يا إسماعين و إتجوزت وخلفت وجوزي مات .. وإنت لساك
عايش يا إسماعين ..؟ أنا بأخد معاشك يا إسماعين .. وإنت لساك حي ..؟ أنا
شحت واشتغلت في البيوت علشان أربي لحمك وإنت لساك حي ..؟ طاب جاي تعمل إيه
تاني يا إسماعين وإيه فكرك بينا ..؟ ورجعت إزاي ..؟ طاب إديني أمارة يا
إسماعين .. إديني أمارة إنك فعلاً إسماعين موش عفريته ..؟ التف الناس في
الزقاق حول الرجل .. ومنهم من تعرف عليه فعلاً .. فأسرعت سيده تفتح الباب
وكأنما عادت شابة من جديد .. وعندما وقفت أمامه .. تذكرت انها مازالت تحبه
.. ونست كل الألم كل التعب ..كل الشقى .. واحتضنته .. وهي تقول كنت عارفه
إنك حي .. وكنت عارفه إنك والله جي .. وكنت مستنايك .. وعلشان كده موش موت
.. وسامحتك يا إسماعين والله سامحتك وسامحت زماني برجوعك يا أخويا .. أدخل
بيتك ومطرحك ..
تمــت
بقلم الكاتب / أحمد بيومي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق